اكتوبر
2024
تمادت السلطات الفرنسية في جرائمها وزادت في طغيانها حتى فشل معها كل حل سلمي وجاءت انقسامات الحركة الديمقراطية لأنصار الحرية. تشكلت لجنة جديدة لإشعال الثورة مؤلفة من تسعة أشخاص برئاسة محمد بوضياف وهؤلاء الأعضاء هم: "محمد خيضر من مدينة الجزائر ـ حسين آيت أحمد من جبال القبائل ـ وأحمد بن بلة من منطقة الحدود مع المغرب". وهؤلاء الثلاثة ارتحلوا خارج البلاد إلى باقي دول المغرب لتوحيد العمل الثوري ضد المحتل الفرنسي ولتلقي الدعم المناسب من الدول العربية الأخرى. أما الستة الباقون فهم: "مصطفى بن بوالعيد من جبال الأوراس ـ محمد العربي بن مهيدي من وهران ـ رابح بيطاط من منطقة قسنطينة ـ محمد بوضياف ـ من مسيلة مراد ديدوش من الجزائر العاصمة ـ كريم بلقاسم من منطقة القبائل". قام هؤلاء بتشكيل "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" وكلف محمد بوضياف بمهمة القيام بالتنظيم. أما جماعة مصالي الحاج فقد رفضوا التأييد إذ أنهم كانوا لا يقبلون أي عمل لا يكون على رأسه مصالي الحاج ولا يتلقون أمراً إلا منه.
اجتمع اعضاء الجبهة يوم 13 صفر 1374 هـ "10 تشرين أول 1954م" في وادي الصومام لتحديد موعد انطلاق الثورة وقسمت البلاد إلى ولايات وعين لكل ولاية مسؤول عسكري وبدأت العمليات الثورية في الأول من تشرين الثاني 1954 وبعد أن غير المجلس اسمه إلى "جيش جبهة التحرير الوطني". انطلقت الثورة من جبال الأوراس وامتدت إلى منطقة القبائل وشملت منطقة الحدود المغربية غربي وهران ومع نهاية عام 1956 كان جيش التحرير قد انتشر في جميع أنحاء الجزائر. أصدرت جبهة التحرير بيانها الأول وحددت فيه أهدافها ووسائلها وكان هذا البيان شاملاً بحيث أن فرنسا ذعرت وأحست بالخطر فأرسلت نجدات سريعة لمساندة القوات الفرنسية الموجودة على أرض الجزائر.
انضمت جمعية العلماء المسلمين "التي أسسها وترأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس ثم خلفه بعد وفاته الشيخ محمد البشير الابراهيمي" إلى جبهة التحرير الوطني في عام 1956 بحيث أصبحت تضم جميع الاتجاهات باستثناء حركة مصالي الحاج. وفي 20 آب من نفس السنة انعقد مؤتمر سري للجبهة في منطقة القبائل انتخب لجنة مركزية ومجلسا وطنياً للثورة. في مطلع الثورة كانت فرنسا مقتنعة أن الدعم الخارجي كان سند الثورة الأول لذلك فقد أرسلت وزير خارجيتها إلى القاهرة واجتمع مع جمال عبد الناصر ليقنعه بسحب تأييده للثورة لكن المهمة فشلت فلجأ غي موليه رئيس الحكومة الفرنسية إلى التواطؤ مع إسرائيل وبريطانيا في الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956. غير أن الهجوم لم يغير من موقف عبد الناصر ولم تتوقف العمليات الثورية الجزائرية بل قوّت من مركز جبهة التحرير إذ نالت مزيداً من الدعم وخاصة من الدول حديثة الاستقلال.
بين أيلول 56 وحزيران 57 شنت الجبهة سلسلة هجمات قوية أوقعت في صفوف الاحتلال خسائر فادحة فكان الرد الفرنسي مزيداً من القتل والتشريد والسجن مما أثار الاستنكار في فرنسا والعالم. اجتمع قادة جبهة التحرير الوطني في المغرب في 5 تشرين الأول عام 1957 غير أنهم وفي طريق عودتهم إلى تونس حط الطيار الفرنسي بهم في الجزائر فألقي القبض عليهم ووضعوا في السجن في فرنسا وهؤلاء القادة هم: "رابح بيطاط ومحمد بوضياف وأحمد بن بلة وحسين آيت أحمد". إلا أن هذا الاعتقال وقصف الفرنسيين لقرية "ساقية سيدي يوسف" في تونس والذي أسفر عن مقتل 79 شخصاً لم يؤثر على تحركات الجبهة ونشاطها بل زادها تصميماً على المضي في طريق التحرير. هكذا وجدت فرنسا نفسها مضطرة للتفاوض مع جبهة التحرير الوطني وهذا ما أثار المستوطنين الفرنسيين في الجزائر الذين تمردوا في 13 أيار 1958 وشكلوا لجاناً عسكرية للأمن وبارك الجيش الفرنسي تحركهم فاستغل المستوطنون خوف الحكومة الفرنسية من اندلاع حرب أهلية في فرنسا وأطاحوا بالجمهورية الرابعة وأعادوا الجنرال شارل ديغول إلى الحكم آملين أن يحقق لهم مطلبهم بدمج الجزائر بفرنسا. مع أن ديغول عزز العمل العسكري فإن ذلك لم يؤد إلا إلى مزيد من أعمال الإرهاب في الجزائر والتوتر على الحدود مع المغرب وتونس وردت جبهة التحرير في عام 1958 بإنشاء "الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية" برئاسة فرحات عباس وعضوية القادة المخطوفين وفي هذا الوقت بدأ ديغول يميل للاعتراف بقوة الجبهة والقبول بمطالبها.
بدأت المحادثات الاستطلاعية الأولى بين الفرنسيين والجزائريين سراً قرب باريس في صيف 1960 غير أنها انتهت بالفشل وفي شباط 1961 أجرت حكومة فرنسا اتصالات جديدة مع جبهة التحرير عبر رئيس تونس وأدت إلى بدء محادثات جديدة في إيفيان على الحدود الفرنسية السويسرية غير أن هذه المفاوضات أيضاً فشلت بسبب موضوع الصحراء. في هذه الأثناء كان المستوطنون قد شكلوا مع بقايا الجيش الفرنسي "منظمة الجيش السري" المعارضة للمفاوضات وكان على رأسهم كبار ضباط الجيش الفرنسي أمثال سالان وزيلر. راح هذا الجيش يشن عمليات هجومية على الجزائريين ثم استأنفت المفاوضات في كانون الأول 1961م وانتقلت في كانون الثاني 1962 إلى جنيف وروما وقد شارك فيها القادة المعتقلون بعدما أصرت الجبهة على أن يكونوا هم الوفد المفاوض. أسفرت المرحلة الأخيرة من المفاوضات التي جرت في إيفيان عن التوقيع في 19 أذار 1962 على اتفاقية وقف إطلاق النار مع إعلان استقلال دولة جزائرية مستقلة بعد فترة انتقالية وعلى صيانة حقوق الأفراد وحرياتهم. استناداً إلى هذه الاتفاقية تشكلت حكومة مؤقتة في 28 أذار 62 برئاسة عبد الرحمن فارس وجرى إطلاق سراح بن بلة ورفاقه وقد اعترف الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية والعديد من الدول في آسيا وأفريقيا بهذه الحكومة.
قامت "منظمة الجيش السري" بالرد على هذه الاتفاقية بشن العديد من الهجمات ضد السكان والوطنيين الجزائريين ودمرت عدة أماكن عامة بهدف خرق وقف إطلاق النار إلا أن جميع هذه الأعمال قد باءت بالفشل ووقع الجنرال «سالان» قائد المتمردين في الأسر وتجددت العمليات الفدائية من جديد. كل هذا أدى إلى ازدياد عدد الفرنسيين الذين بدأوا بمغادرة الجزائر ومع حلول شهر حزيران 1962 كان أكثر من نصف الأوروبيين قد غادروا البلاد. وفي استفتاء عام جرى في أول تموز اقترع 91% من الجزائريين مع الاستقلال وفي الثالث من الشهر نفسه أعلن الجنرال ديغول انسحاب فرنسا من الجزائر بعد استعمار دام أكثر من 130 عاماً.
أضف تعليق